(13)
شفيت عذاري سريعاً وعادت لشقة أبوها والذي بدوره وجد لها وظيفة في مركز طبي حكومي بالقرب من شقته وبدأت العمل بعد شهر من شفاءها .
وانشغلت جداً في عملها والذي أحبته من كل قلبها والذي سوف تتحقق فيها أمنيتها وهي خدمة المجتمع والسهر على راحتهم أهداف نبيلة تحملها من نعومة أظفارها .
ما أروعها من أيام مرت عليها في ذلك المركز الطبي ، وكم طارت من الفرحة عندما استلمت أو راتب لها ، ظلت ذلك اليوم تغرد كعصفور الكناري فرحاً وطرباً ، وظل أباها سعيداً فرحاً ينظر إليها بينما كانت تريه راتبها وتحسبه أمامه وتخبره بما سوف تفعل و و و ... ما أروعها من لحظات دافئة رائعة .
مر على تعينها عدة أشهر مرت سريعة ، وفي بداية خريف سنة 2003 رحل أباها بحادث اصطدام بعمود إنارة أثناء ملاحقة أحد تجار المخدرات ولم تمهله الصدمة وقتاً فلقد توفي في مكان الحادث واحترقت مركبته بعد إخراجه منها بثواني معدودة .
وتساقطت الورقات من على الأشجار وتلقت الخبر عذاري كالصاعقة وذبلت الوردات اليانعة فجأة أمامها وأظلمت الحياة وصارت لا ترى شيئاً غير زوجة عمها والتي أخبرتها بالخبر وأمرتها أن تحمل أغراضها للذهاب لبيت عمها .
بكت كثراً ، فلقد رحل سندها وعونها لقد رحل قبل أن يرجع لها الذي حرمها منه بالسابق كان لازال يسد الدين ولكنه لم يوفيه فلقد كان الموت أسرع ، سامحته من كل قلبها ودعت له كثيراً في كل صلاة وفي كل لحظة ، لقد تعرفت عليه قليلاً ووجدته شيئاً مغاير لما عرفته عنه سابقاً ، وجدته قلب كبير دافئ الأركان .
لقد رحل قبل أن توقع على الورقة وتثبت أنها وجدت المتعة المفقودة ، فلقد أخفى أبوها موضوع الورقة إلى بعد سنة أو سنتان لكي يظهرها من جديد لها لتوقع ولكن لا أمل فلقد رحل .
إنها الآلام المدمرة في وقت صار يرش الملح على الجراح .
عادت لتلك الغرفة في منزل عمها ولكنها عادت وحيدة ، عادت إلى القيود ، وإلى التعاسة .
وبعد وفاة أبوها بأسبوع دخل عليها عمها ليملي عليها القائمة من جديد ، لا عمل ، لا سواقة للمركبة ، ولا خروج من المنزل ، وأخيراً وبعد أن انتهى من قائمته تهلل وجهه وقال : سوف أزوجكِ لا تخافي لن تظلي وحيدة طويلاً سوف أسترك ففرحي .
لم ترد عليه بل ظلت صامتة ومن ثم انفجرت باكية عندما خرج وأغلق الباب .
(14)
كانت حصة عذاري من ورثة أبوها أربع ملايين وثلاث بنايات مكونة من ثلاث طوابق ، ثروة كبيرة لكنها لم تهتم بها ولم تفرح بدخول كل ذلك تحت أملاكها الخاصة ، فما فائدة كل ذلك لقلب منهك محطم تدمر بين الحزن والهم والخوف .
تدهورت حالت عذاري جداً ونحل جسدها كثيراً وانتفخت عينيها من البكاء واسود محيطها من السهر .
لا مجال للهروب فذلك الكلب الشرس الذي وضعه عمها في فناء المنزل سوف يجعلها وجبة دسمة إن رآها تتسلل للهروب ، لهذا سلمت أمرها وبقيت مكانها .
وفي ذلك اليوم كانت تجلس في مجلس النساء الخاص بمنزل عمها مع بنات عمها واللواتي يصغرنها سناً بكثير ودخل وقتها عمها واستدعاها .
وما أن اختلى بها قال : أخيرك بين ثلاثة عمر والذي يبلغ من العمر ستون عاماً والعمر ليس شيئاً يعيب الرجل فهو يملك مؤسسة لتجارة الإسمنت وصاحب أموال طائلة لا تعد ولا تحسب أو ابن عمك سالم صحيح أنه متوسط الحال ولكنه رجل صاحب سمعة طيبة أو ابن الجيران والذي أراه غير مناسب ولكن أمه أزعجتني لهذا وضعت اسمه في القائمة فهؤلاء ليسوا جديرين أن نناسبهم .
قالت : دعني أفكر عدة أيام .
قال : لا قرري الآن .
ابتسمت ساخرة : ما أسرع الحياة عندك يا عمي ، اختار سالم .. قالتها بلهجة ساخرة ساخطة .
مبارك يا عذاري سوف نعقد القران يوم الخميس وسوف تمر عليك زوجتي لتخبريها باحتياجاتكِ لتحظرها لكِ فأنتِ لا زلتِ تحت المنع من الخروج .. ومن ثم رحل .
ضحكت عذاري بسخط وقالت : يا غبي .
فتح الباب وقال نعم هل قلتي غبي !!
صعقت عذاري ووضعت كفها على فمها وولت بالهروب لغرفتها وما أن وصلت لغرفتها وتأكدت أن عمها لا يتبعها انفجرت ضاحكة وما هي إلا لحظات إلا وأجهشت بالبكاء .
سالم ذلك الفتى الطائش والذي يقضي وقته في سباق المركبات وإزعاج السكان بهدير مركبته المزعج ، وهو بنظر عمها رجل لأن الناس تهابه وتحسب له ألف حساب بسبب صراعاته الدائمة معهم وعدم احترامه لأي شخص يقف أمامه أو يفكر بذلك ، فهذه الرجولة في نظره أن تكون قوياً تصرع الجميع دون النظر هل يفعل ذلك بالحق أم بالباطل ؟ ، ولكنه أفضل الخيارات المطروحة لها فالعجوز سكير عربيد وابن جارهم وان كان مستقيماً ومحترماً وباراً بوالديه لكنها وصلت الرسالة بأنه غير مرغوب به ولا مجال لاختياره .
لعلي أستطيع إصلاح سالم وهدايته للدرب الصحيح وسوف أحاول دام أن لا خيار لي غير الارتباط به ، وبما أنه يصغرني بثلاث سنوات وأنا أحمل كماً هائلاً من الثقافة فلعلي أستطيع تغييره .
انتهت عذاري من كتابة مذكراتها واستلقت للنوم بعد إغلاق المصابيح ، ومع أن الوقت مبكر للنوم لكن لا مجال للعودة للواقع فعالم الأحلام أروع وأجمل .
(15)
مرت الأيام سريعة وتزوجت عذاري سالم والذي أثث لها قسم كامل في منزل أبوه وكان عبارة عن مجلس وغرفة نوم وغرفة طعام ومطبخ وثلاث حمامات ، قسم كبير ومميز لفتاة حديثة الزواج ، ووضع فيه من أرقى الديكورات والأثاث عن طريق مساعدات من أبوه وأعمامه وإخوانه وقرض من بنك ربوي .
بدأت حياتهم هادئة ، يذهب للعمل في الصباح ويعود بعد الظهر بقليل وينام القيلولة والتي تنتهي بعد العصر ولا يوجد في أعماله كلمة صلاة فهي شيء لا وجود له في حياته ومن ثم يجلس معها إلى أن يحين وقت صلاة العشاء ومن ثم يخرج عند أصدقائه وفي بداية الأمر كان يعود في الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً في أول شهرين من الزواج أما بعدها صار يعود في الثانية أو الثالثة صباحاً .
طبعاً منعها من العمل لأنه يرى في عملها أنه ليس بالرجولة أن تعمل زوجته !!
لا جديد في حياتها غير ما يطرحه التلفاز ، وفي بداية الزواج كان هناك حاسب آلي موصول بخدمة الإنترنت وبسرعة عالية ولكن بعد مرور أسبوعان على الزواج قام سالم بقطع الخط وبيع الحاسب الآلي ، ولم يبدي لعذاري لماذا فعل ذلك ؟
وهي أيضاً لم تحاول أن تسأله لأنها تعرف الأسباب الحقيقية وراء تلك الفعلة التافهة .
وفي ذلك اليوم جلست كعادتها اليومية أمام التلفاز وإذا بسالم يدخل وهو مقطع الثوب والدم يملئ ما تبقى من ثوبه وملابسه الداخلية .
نظرت إليه ببرود لأنها تعرف السبب وقالت : اغتسل .. ومن ثم عادت لمتابعة فلم وثائقي كان يعرض على أحدى القنوات .
ولم تدري إلا بقبضة قوية تمسك بها من رقبتها بالخلف ولم تشعر بنفسها إلا وهي واقفة ، التفت بسرعة البرق بعد أن أفلتت من قبضته وإذا بصفعة تدوي على خدها الأيمن .
نظرت إلى سالم وابتسمت وفي عينيها الدمع يتقاتل لكي يملئ خديها ويخفف عليها حرارة ألم الصفعة .. شكراً .
لم يرد عليها وتوجه لغرفة النوم للاغتسال وتبديل ملابسه .
عادت لمكانها وكأن شيئاً لم يحدث ولكن هناك شيء يحدث في نفسها انه ثوران البركان إنها تغلي وتعتصر ألماً .. يكفي ضرباً يكفي إهانات .. ما هذه الحياة ؟
وبعد مدة عاد وجلس على الأريكة بعد أن أخذ جهاز تحكم التلفاز وبدل القناة دون استئذان .
لم تتكلم ولم تعارض ولم تقوى على الحراك والذهاب لغرفتها ، وجلست تطالع بعينيها التلفاز وقلبها في عالم آخر في عالم جميل وهادئ ، في مكان ما على هذه الأرض ، في هذا الوجود هناك مكان رائع هي هناك بقلبها الآن هناك المتعة المفقودة .
أين هي ؟ سألت نفسها ولكن نفسها فضلت الصمت ، ولن تجيب ولن ترد .
استأذنت بعد مدة من سالم للذهاب لغرفتها
(16)
في ذلك الظلام وفي مقبرة الأوهام وبين أشواك الأحزان حيث الآلام تعشش فوق غابات الهموم جلست وحيدة مكبلة اليدين والأرجل في حفرة عميقة أصرخ بأعلى صوتي لكن لم يجبني أحدا حتى صدى صوتي لم يعود علي ليسليني قليلاً ، في أي عصر أنا وفي أي عالم أنا وفي أي دمار أنا أجيبوني ، تركت صغيرة وعذبت كبيرة ،ما الجديد في حياتي غير يوم كئيب يمر علي مثل الذي قبله ، كان لدي أخ وكنت أظنه سوف يكون سندي ولكنه بين الأموات ولكن عندي أختان لكنهن مثلي في غياهب الظلم والقهر والاستعباد ، ربما تقولون أنني أبالغ وإن عصرنا ليس هناك من مظلومات فالمرأة أخذت حقوقها كاملة ، أقولها لكم وبملء فمي يا للأسف لقد اقتصر فكركم على محيطكم ولم تغوصوا لكي تعلموا الحقيقة . انتهت عذاري من كتابة مذكراتها ووضعتها في خزانتها الخاصة وأقفلتها ووضعت المفتاح في ثوبها فلا مجال لأن يطلع عليها أحد غيرها حتى سالم كم تقاتلت معه ولم تيأس إلى أن رضخ وأعلن لها عدم رغبته الإطلاع عليها .
ذهبت للنوم وما أن وضعت رأسها على الوسادة قام سالم والذي لم يكن نائماً وقال لماذا لم تحملين إلا الآن ؟
الأمر عند الله عز وجل . قالتها وهي تعطيه ظهرها .
قال : غداً نذهب للعيادة لإجراء الفحوصات لقد تأخرتِ جداً وأنا أريد أن أصير أباً وأصدقائي يعايروني بأني إلى الآن لم يأتي لي مولود .
ابتسمت وقالت في نفسها لن أحمل منك فلا أريد أن أدنس بطني بمولود منك ، ولكنه في نفس الوقت كان يخالجها شعور بالخوف ماذا لو عرف الحقيقة وأنني من يتعمد عدم الحمل باستخدامي موانع الحمل بشتى أنواعها ، سوف يقتلني .
(17)
في الصباح الباكر استأذن سالم من عمله وذهب مع عذاري للعيادة وقد نبه عليها أكثر من مرة أن تتصل به قبل أن تدخل على الطبيب لأنه يريد أن يكون معها .
جلست عذاري في قسم النساء وقلبها يرتجف من الخوف ما الحل ؟ إني أعلم أنه ليس فيني عيب وسوف ينكشف أمري ، ماذا أفعل وما هو الحل ؟
قتلتها الأفكار المخيفة ولكنها قالت وما الجديد ضرب إهانة حرمان لقد تعودت .
مرت إحدى الطبيبات من قرب عذاري ومن ثم عادت لتقف أمامها رفعت عذاري نظرها ببطء لتنظر ، إنها نوال صديقتها الرائعة من أيام المرحلة الإعدادية والتي بقيت على اتصال معها دائم إلى أن توفي أباها وانقطع الاتصال بينهما .
عذاري إنها دنيا صغيرة .
نعم يا نوال .
لم تستطع نوال قول أي شيء آخر غير أنها ظلت تنظر إلى عذاري التي كانت في يوم ما فاتنة ورائعة وجميلة جداً وصاحبة عينين براقتين ووجه صافي ناصع وجسد فتان وهي تراها الآن كالعجوز في لباسها وهيئتها وبعينين غطاها جهد الإرهاق والبكاء وأسود محيطها وبشفاه ذابلة وجسد نحيل .
نوال هل تنجدينِ قالتها متلهفة .
عادت نوال للواقع من جديد : ماذا نعم نعم يا عذاري أفديكِ بروحي .
أخبرتها القصة ولماذا هي هنا .
قالت سوف آخذ ملفكِ وأتصرف بالموضوع كاملاً لا تقلقي .
سرحت عذاري تنظر لنوال ما أروعها من صديقة وأطالت النظر .
ماذا بكِ يا عذاري . قطعت نوال حبل أفكار عذاري فجأة .
ابتسمت عذاري بطريقة شعرت منها نوال بشيء غامض ، بشيء مدمر ، بمشاكسة ومغامرة جديدة ، فتلك الابتسامة من عذاري تعرفها جيداً من أيام الدراسة .
هل تستطيعين إخراجي من هذا المكان دون أن يرانا أحد . قالتها بعد أن اقتربت من نوال وهمست لها .
وعدتكِ أني سوف أقف معكِ ولو على فقداني روحي هيا يا عذاري يكفيني ألماً وحزناً وأنا أراكِ وأنتي صديقة عمري وحبيبة قلبي بهذه الحالة .
كاد قلب عذاري أن ينطلق مغرداً من الفرحة معلناً إنها الحرية ورحلت في رحلة قصيرة لعالم الأحلام سوف أذهب للمحكمة وأطلب الطلاق وأقاضيهم على سوء معاملتهم و و و وعادت سريعاً لعالم الواقع بقبض نوال كف عذاري اليمني قائلة هيا يا عذاري .
أخرجت نوال عذاري من الباب الخلفي للعيادة والخاص بالموظفين والذي يؤدي إلى مواقف مركباتهم الخاصة ، وأعطت عذاري مفاتيح عربتها بعد أن أشارت لها بمكانها لتنظرها في المركبة بينما تأخذ رخصة اضطرارية وتعود لها .
مرت عشر دقائق بطيئة جداً وكأنها مليون سنة حسب تعبير عذاري فكل جزء من الثانية كانت ترقبه وما أطول الانتظار في نفس هذا الوقت المصيري .
أتت نوال مسرعة وركبت وقالت إنها الحرية .
صرخت عذاري الحرية واو ..
وانطلقت نوال بمركبتها .
سألتها عذاري بينما كانا في الطريق : ولكن إلى أين ؟
قالت عندي شقة قريبة من هنا وسوف تقطنين فيها إلى أن نجد حلاً .
شقة استنكرت عذاري .
قالت نوال : لقد أعطيت إياها من إدارة المستشفى وأبقيتها مغلقة ولا أستخدمها أبداً فأنا لا زلت عازبة وأسكن عندي أهلي ماذا دهاكِ يا عذاري لست منفلتة . وضحكت وهي تنظر لعذاري .
ابتسمت لها عذاري واطمأنت ورفعت على صوت المذياع لآخر صوت واسترخت .
وصلتا للشقة والتي كانت فخمة بكل ما تعنيه الكلمة .
أخبرتها نوال بغرفتها وطلبت منها أن تسترخي وتأخذ راحتها ، وأرادت عذاري الاستحمام ولكن لا ملابس عندها غير التي تلبسها ، وعدتها نوال بالذهاب لمنزل أهلها وإحضار ملابس مريحة لها وبعض الطعام .
وبعد عودة نوال توجهت لغرفة عذاري ووضعت الملابس على السرير وكانت عذاري لا تزال في الحمام فلقد ملئت حوض الاستحمام واسترخت فيه ، أخبرتها بأنها أحضرت الملابس وذهبت لإعداد سفرة الطعام .
وبعد أن انتهت عذاري من الاستحمام ولبست الملابس التي أحضرتها نوال استرخت فوق كرسي للاسترخاء وضع في الغرفة والتي كانت مؤثثة أثاث فخم وكأنها شقة مسكونة ولقد علمت من نوال أنها مفروشة من قبل مالك البناية وأن إدارة العيادة استأجرت البناية ووزعت شققها على الموظفين مقابل عائد مادي بسيط جداً.
وتذكرت كيف أنها رمت بهاتفها المتحرك بعد إغلاقه في القمامة وضحكت من تلك الفعلة ، وهي تفكر جال بها فكرها وصال إلى أن سألت نفسها على حان وقت البحث عن المتعة المفقودة ؟
أطلت نوال من الباب وقالت بعد أن وضعت يديها على خصرها : إني انتظركِ وأنتي هنا مسترخية هيا سوف يبرد الطعام .
نظرت إليها عذاري وابتسمت ودون أن تتحدث قامت واتجهت معها وما إن وصلت إلى باب الغرفة إلا ودفعت نوال مازحة والتي بادرتها بدفعة وتسابقتا إلى غرفة الطعام ، لقد تدافعن وكأنهن عادتا من جديد لمرحلة المراهقة .
جلستا يناولن الطعام وتكلمن كثيراً وضحكن كثيراً وبكيتا كثيراً أيضاً وطال ذلك الغداء لمدة ساعتان كاملتان .
وبعد الانتهاء من الغداء جلستا في المجلس ولعبتا لعبة كانتا يلعبانها أيام الإعدادية ، ما أروعها من سعادة .
وهناك وقف سالم في مركز الشرطة يحرر بلاغ عن هروب زوجته واختفائها .
(18)
بقيت عذاري لمدة خمس أيام في شقة نوال والتي كانت تمر عليها بين الفينة والفينة وأحيان نستأذن من عملها لكي تبقى وقت أطول معها وكانت تحظر مع أحد المحاميات الشابات والتي كانت صديقتها من أيام الدراسة وذلك لرفع قضية تكون هي الرابحة فيها .
وفي نهاية يوم الخميس حضرت نوال لعذاري وقالت لها : غداً يوم عطلة وبعده ما رأيكِ أن نذهب لمدينة أخرى ونتمشى ونغير هذا الجو الكئيب .
وافقت عذاري بدون تردد فهي من ذو زواجها إلى هروبها لم تخرج في رحلة سياحية ولقد أرهقت نفسها جداً مع صديقتها المحامية وهي بحاجة لاستراحة لأني يوم الأحد القادم سوف تتوجه للمحكمة .
ظلت نوال هادئة ولم تتكلم بالمزيد .
نظرت عذاري إليها تحدثي يا نوال إني أعرفكِ جيداً في عينيكِ كلام كثير .
قالت نوال : لا تفهميني غلط يا عذاري أنا من عائلة محترمة ومرموقة ومتربية على فضائل الأخلاق .
ضحكت عذاري بهدوء وقالت : ومن قال غير ذلك ؟
عذاري سوف يرافقنا في الرحلة صديقي في العمل . قالتها نوال بسرعة هائلة .
صعقت عذاري بل شل لسانها وكادت أن تغييب عن الوعي .
عذاري أفهميني إنه مجرد صديق أتسلى معه صدقيني إنه محترم و و و
كلام كثير لم تسمعه عذاري والتي شعرت أنها في خطر ، أنها في عالم مخيف يجب الهروب منه .
نوال الفتاة المستقيمة الملتزمة بدينها والتي كانت تتحاشى الحديث للجنس الآخر إلا في الأمور العامة أو التي تخص العمل ، الآن أصبح لها صديق على حسب قولها ، وتذهب معه لرحلات طويلة .
ظلت عذاري تائهة في دوامة أفكارها وصامتة .
ونوال تتحدث وتقنعها .
دفعت عذاري نوال بقوة وانطلقت نحو الباب لتخرج وهي لا تلبس غير رداء مطرز مخصص للمنزل لا عباءة ولا غطاء للرأس ، وتمكنت من الخروج بسرعة هائلة ولم تنتظر المصعد بل نزلت من السلالم ، ولم يكن عليها الكثير لتنزله ، فلقد كانت شقة نوال في الطابق الثالث .
ونوال خلفها تجري اسمعيني افهميني يا عذاري اسمعيني .
لن أسمع لن أفهم . تقولها في نفسها .
تخطت الشارع وما إن وصلت لنصفه إلا وصدمتها مركبة لم تكن مسرعة جداً ولكنها كانت بالسرعة التي جعلت عذاري في عالم آخر .
(19)
وقف شخص يتضح عليه أنه ذا هيبة وذا مكانة مرموقة في المجتمع يحمل في يده اليمني ورقة مطرزة بالورود الحمراء ويفوح منها رائحة الياسمين والذي كان يوضع فيها على الدوام ، فما أن يذبل إلا ويتم استبداله .
ظل واقفاً أمام قبر لمدة طويلة ومن ثم حفر حفرةً تكفي لإخفاء الورقة ومن ثم وضعها ودثرها بالتراب .
لقد كان غانم صديقي من ذو الطفولة ولقد كان يعلمني بكل أموره مهما صغرت أو كبرت أو زادت درجة سريتها وحساسيتها ولقد أعطاني هذه الورقة قبل وفاته بلحظات وقال لي إنها لعذاري .
عذاري يا صغيرتي المدثرة بالتراب في هذه الحفرة لقد منعت من إنقاذكِ ولقد حاولت لكن صدني عمكِ بشدة واستغل نفوذه ليسكتني ، عذاري يا غاليتي هل وجدتِ المتعة المفقودة ؟
كفكف دمعاته وهو يغادر للقبر الذي بجانبه وقال لقد أوصلت الأمانة يا غانم ولكن متأخراً فأعذرني وهذه ابنتك تنام بقربك فتستطيع أن تسألها إن استطعت .
ورحل ورحلت الأيام ولم يبقى غير شاهد على تلك القبور معلناً النهاية .
( من مذكرات عذاري )